تليمة أستاذي الجليل


مع الدكتور عبد المنعم تليمة والدكتور السيد إبراهيم محمد
تكريم الدكتور عبد المنعم تليمة
د.إبراهيم أبو طالب
   في ليلة 31 من أكتوبر 2007م كانت مصر - بمثقفيها وأدبائها وشعرائها- تكرِّم فيلسوف النقاد الأستاذ الكبير الدكتور (عبد المنعم تليمة)، في مقر حزب التجمع وبرعاية وإدارة (مجلة أدب ونقد)، وذلك بمناسبة بلوغه في هذا اليوم عامه السبعين، وفي كلمته الترحيبية والاستهلالية تحدث الشاعر الكبير (حلمي سالم) عن ثلاثة أسباب أخرى لهذه الاحتفالية، هي حضور عبد المنعم تليمة فينا كأدباء وشعراء بقامته النقدية والإنسانية العظيمة، ولنجاته من وعكته الصحية قبل فترة من الزمن، ولحصوله على جائزة الدولة التقديرية في الآداب (2004م) التي تشرفتْ به.

 وقد بدأ الحديث الأستاذ (حسين عبد الرازق) مرحبا بالمُكَرَّم وضيوفه وألقى كلمة حزب التجمع، ثم اعتلى المنصة رئيس اتحاد كتاب مصر والأمين العام لاتحاد الكتاب العرب (محمد سلماوي) وقال "ما كان لي أن يكون هنالك احتفال لقمةٍ كبيرةٍ وعَلَمٍ شامخ كالدكتور تليمة ولا أكون فيه موجودا ومستمعًا ومؤازراً لهذا التكريم والاحتفال"، ثم وصف تليمة بأنه "يمثل في حياتنا أشياء كثيرة باعتباره صاحب مدرسة وطريقة في النقد؛ تخرَّج فيها أكثر من جيل ممن يُثْـرونَ حياتنا الأدبية والنقدية، والفكرية "، وتحدَّث عن خُلق هذا الرجل الكريم المترفِّعِ عن كل صغيرة بنظرته الثاقبة والسامية، وهو قيمة كبيرة تشير أيامنا الحالية إلى ضرورتها وندرتها في حياتنا، وذلك هو الثبات على الموقف دون عنترية أو مجاهرة، وقد أثبت تليمة أن المثقف الحقيقي لا يمكن أن يكون مهنيًّا فقط، ولكن يجب أن تكون له مساهمة في الحياة العامة وتكون له قضية، وقد كان تليمة –وما زال- مرتبطا بقضايا الوطن من موقعه كأستاذ جامعي، وكناقد، فهكذا يكون المثقف".
 ثم تحدث الدكتور (محمد حافظ دياب) في كلمة بليغة ومؤثرة ؛ تحدث عن نظرية تليمة النقدية، وكيف انشغلَ فيها بالبحث عن استيضاح النقد العربي وتحويله إلى نظرية عالمية، متخذا من المادية التاريخية –بحسب وصفه– منهجاً وسلاحًا لتقديم رؤيته، وقد أسس إطارا معرفيا وجدليا وفكريا يتخذ من حرية التعامل مع نظرية الانعكاس علامة وإشارة وسبيلا إلى تطوير نظريته، وقد قامت آليات انشغاله الفكري في مزاوجة مبدعة بين الموروث العربي وبين المنجز الحديث العربي والعالمي في تأصيل نقدي متميز، على أن تليمة من النقاد القلائل الذين رفضوا الثنائيات المتناقضة، ورفضوا "المقاطبة" بين النازع والجميل اعتبارا من أن الجميل لديه صاحب للنازع، ورفض ثنائية الفن والأدب اعتبارا من أن كليهما نشاط جمالي، ورفض ثنائية الشكل والمضمون، والتاريخي والفردي في تأكيده على حساسية الفرد، وغير ذلك من الثنائيات التي أجهضت الدرس النقدي الأدبي بين ما هو علم، وما هو فن، ولكنه بمنهجه ونظريته استطاع أن يؤكد على علمية الدرس النقدي والأدبي وجماليته معا، وأسَّس بجهده معجَمَه النقدي واصطلاحاته الخاصة، فتليمة أول من أدخل مصطلحات في النقد لم تستخدم من قبلهِ من أمثال: (مصطلح: المعرفة الجمالية، والعارف الجمالي، والمعروف الجمالي، وعلم الجمال الأدبي، ومصطلح التشكيل كتقنية نقدية، وغيرها من المصطلحات التليمية)، ثم أشار دياب في كلمته -أيضًا– إلى أنّ جديد تليمة جاء عبر منطلقات ثلاثة هي: أولاً: الجذر الفلسفي، فهو بحق فيلسوف النقد الأدبي حيث زاوج بين الفلسفة والأدب والنقد، وعبَّرت تلك المزاوجة عن نفسها في تقنياته؛ حيث مارس الاستنباط والتحليل والمنطق، ومن ناحية الإطار امتاز بأن أمسك بالمادية التاريخية باعتبارها رهانا أساسيًا، ما دعا إلى أن يصور عمله بأنه جهد جدلي راقٍ في النظرة للأدب. والمنطلق الثاني: منطلقٌ بلاغي؛ بمعنى أن ما يقدمه تليمة هو الجمع بين الموروث العربي والحداثي في بلاغته ووظائفه، والمنطلق الثالث: يتمثل في تعامله مع الدرس النقدي على اعتبار أنه فعل اجتماعي ونشاط إنساني" مؤكداً أن مشواره النقدي والأدبي والإنساني لم يقتصر على جدران الجامعة، بل خرج منها إلى المجتمع بكل شرائحه. وختم حديثه بالإشارة إلى أن تليمة علاوة على كونه ذلك الناقد العملاق إلا أنه أيضًا حكّاءٌ بديعٌ، ومُشَافِهٌ جميلٌ يُحكمُ زِمَام الحوار في مجلسه وفي داره كل خميس، ويأتي بدرر الكلام، ويقول الكلمةَ الفصلَ في كل حوار، وينهي كلامه بقبلة دافئة على جبين تليمة قائلا " أيها الشيخ الشاب البديع أحبُّك وأنت من ذلك على بينة ويقين".
 ثم تتحدث الدكتورة (مُنى طُلْبَة) عن مواقف تليمة معها منذ كانت باحثةً تدبُّ على الطريق، وكيف أخذ بيدها -لوحده- كما أخذ بأيدٍ كثيرة تحمدُ له فضْلَه، ثم أنشد الشاعر (محمود الشاذلي) قصيدةً رائعة بعنوان ((شاهد عليه عصره))، ثم تحدث الكاتب الكبير (السيد ياسين) الذي قال: "كنت أظن أن الحديث عن تليمة ميسورًا لكنني اكتشفت صعوبته لأنه من الأساتذة القلائل في جيله، فهو صاحب مدرسة، ومناضل سياسي رفيع المستوى، دفع ثمن نضاله في سبيل تحقيق آمال مصر، وأقام مؤسسة ثقافية في بيته، وفي ختام كلمته رحَّبَ بدخول تليمة في قبيلة السبعينيين من العمر. وبعد كلمته قدم حزب التجمع درعَ العطاء الثقافي للدكتور تليمة؛ قدَّمَهُ عن جمعية كُتّاب الغد الأستاذ (محمد فرج)، وبعد جيل الزملاء والمجايلين من المتحدثين جاء جيل تلاميذ تليمة حيث تحدث -بدايةً- الدكتور (صلاح السروي) عن تليمة الموسوعة المعرفية، وأحد مؤسسي الثقافة المصرية مؤكداً على تميّزه عن قائمة نقاد مصر من الأساتذة العظماء أمثال (طه حسين، وسهير القلماوي، وشوقي ضيف وغيرهم) بأن تليمة يمتاز بحنوِّه وأبوّته؛ حيث تحوَّل -وما زال- منزله قبلة للواردين والشاردين، وكل محبي المعرفة والثقافة، ثم ألقى الدكتور (سامي سليمان) كلمةً تكلَّم فيها عن كتاب "مقدمة في نظرية الأدب"، وكتاب "مداخل إلى علم الجمال الأدبي" مبينا منهجهما النظري والنقدي وأهميتهما في الدرس الأدبي وأثرهما على كل الدارسين والكتاب، ثم تبعَ ذلك نقلة شعرية أخرى حيثُ ألقى أحد تلاميذ تليمة وهو الشاعر الإعلامي (ماجد يوسف) رئيس قناة التنوير قصيدةً رائعةً بعنوان (البؤرة) أهداها إلى "عبد المنعم تليمة" وهي باللهجة المصرية، قال في مطلعها:
"عينت السهم في البؤرة
 وكان حد النصال مصقول 
 وكان أغنى من الفقراء
  بيقطع كل ما بيقول...."
وقد لاقت الاستحسان والتصفيق الحار من الجمهور الكبير الذي حضر الاحتفال.
 تحدث الدكتور (سيد البحراوي) في كلمة رصينة مبينًا علاقته بالدكتور تليمة والتي تمتد خلال 33 عاما تنوعت بين الأستاذية والتلمذة والأبوة والبنوة، ثم الأخوة، والصداقة، والزمالة على المستويين المهني والسياسي، واصفاً تليمة بأنه المثقف الموسوعي الذي يعرف جيدًا التراث والنظريات الحديثة العربية والغربية، وكذلك الشرق أسيوية بما أتاحته له إقامته للتدريس في جامعات اليابان لمدة عشر سنوات من قراءة ومعرفة ومعايشة للحضارة اليابانية وغيرها، وتليمة الإنسان والأستاذ كان وما يزال يبهرُ مستمعيه بكلماته المكثفة والدقيقة المحددة حين يتحدث أو يشرح أو يصف، وهو بذلك مثال للأستاذ المتمكن "ثم ينهي الدكتور البحراوي كلمته بطلب يُشهد الحاضرين عليه بأن يقول: "إني باسمكم وأمامكم أطلب من الدكتور تليمة أن يُخرج طاقته الإبداعية وأن لا يكبتها أكثر من ذلك وإلا... "، ثم يندفع سيل من طالبي التحدُّث ويتكلمون عن تليمة ويعبرون عن حبهم له وإجلالهم لقدره، ويروي كلٌ منهم موقفاً حدث له معه أو شهادة لعظمته أستاذاً وأباً وصديقا وإنساناً، وممن تحدث في ذلك الدكتورة ابتسام سعيد، و الدكتور كمال الدين حسين، والدكتورة أماني فؤاد، والدكتورة عفاف عبد المعطي، والدكتور السيد إبراهيم محمد، والروائي فتحي امبابي، والدكتور عبد السلام الشاذلي، والدكتور سيد عشماوي، والشاعرة ميسون صقر، والروائية سلوى بكر، والكاتب نسيم مجلي، وراضية أحمد، ووفاء إبراهيم، ومحمد حسونة، وغيرهم، وكان للطلاب العرب حضـورهم؛ حيث ألقيتُ كلمةً هنأتُ فيها أستاذي الجليل الدكتور تليمة ببلوغه سن الخامسة والثلاثين مرتين، وشكرتُ جهده العلمي الذي تحول إلى قيمة مصرية وعربية وعالمية، وقد زار اليمن أستاذا في جامعاتها لأكثر من مرة وعَلِقَ بجناحه باحثون كثر، واستفادوا من علمه في اليمن وفي مصر، ثم تحدثتُ عن أول لقاء لي معه، في مكتبه بقسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة، حيث قال: "إن لنا باليمن رَحِمَاً فقد تلقيتُ العلمَ في إحدى مراحل دراستي عن الراحل الكبير علي أحمد باكثير وآن أن نُرجعَ ونُسدّد بعضاً من ذلك الدين في طلابنا من اليمن السعيد، ثم ختمتُ كلمتي الموجزة بهذه الأبيات:
إن تُكْرِمُوا العلمَ والأخلاقَ والقيمةْ
فذاك حقٌ حضرنا اليوم تكريْمَه
هذى الحروف، ونبضُ النيل يعرفهُ
مواقفًا حققتْ في الناس تعظيمه
إن قيل منْ فارسُ الفُصْحَى وناقِدُها
نادى اليَرَاعُ – بفخرٍ – ذاكَ (تِلّيمة).
   هذا وكان الشاب الفنان (حسين درويش) قد عَزَفَ على الناي مقطوعتين جميلتين من غناء عبد الوهاب هديةً للدكتور تليمة الذي يُحبُّ عبد الوهاب ويعشقُ فنَّه، ثم تحدث صديقه المحب وجليسه الدائم الدكتور (صلاح قنصوه) عن هذا الرجل العظيم والأستاذ الجليل، وكيف أنه محبٌ لكل الناس وليس لديه إقصاء للآخر فكرا ووجودا، وقد تخلص بطبعه وعلمه عما وصفه قنصوه "بالفاشية التي بداخلنا، حين نُقْصي الآخرين، ولا نرى لهم إلا ما نَرى، وقد يصل الأمر إلى أننا نريد أن نستأصلهم أو نصفِّيهم حين يخالفوننا الرأي والفك"، وتحدث عن جمال تليمه ونفسه المترفعة وسلوكه الإنساني العظيم، بأسلوب الدكتور قنصوه المهذب والمرح الذي سَلَبَ ألباب المستمعين بكلمته الجميلة، وختامًا قال مدير الندوة الشاعر الكبير (حلمي سالم) الذي وشّى الاحتفالية برداءٍ رائعٍ من البلاغة العالية والكلمات التي تليق به كشاعر وبالدكتور تليمة كمُحْتَفي به ومكرَّم في هذه الليلة الجميلة من ليالي الوفاء للعظماء في حياتهم وبمرأى أعينهم؛ قال - مهنئاً ومودِّعَا -: "ما يكون لي أن أُعَقّب أو أتكلم بعد كلام الدكتور عبد المنعم تليمة ولكنني سأختم الآن وأقدمهُ ليضعَ إمضاء الختام لهذه الأمسية الرائعة"، وتكلَّم الدكتور تليمة والعبرةُ تكاد تخنق كلماته، وأعين الحاضرين ترقُبُه بكل حبٍّ وإجلال وروعة، فتحدّثَ عن شذرات من فكره وتكوينه النفسي والمعرفي، ثم ختم بقوله " كيف لمثلي في هذا المقام وهو المعادي للثنائية والضدية أن يشكركم فيفصل نفسه عنكم" وضجّت القاعة بتصفيق الختام متمنين للأستاذ المعلم الكبير دوام العافية وسبعين عامًا أُخرى مليئة بالصحة والسلامة والعطاء.
                                                   مع الدكتور تليمة والشاعر حلمي سالم

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)