راتب سكر أوفى إلى الصديق


الشاعر السوري الدكتور راتب سكر
أقرب إلى المكان أوفي إلى الصديق
د.إبراهيم أبو طالب
   كَتَبَ "غاستون باشلار" كتابه القيم "جماليات المكان" ورصد فيه أهمية المكان بالنسبة للإبداع، ودلالة ذلك الفضاء في تجربة المبدع، وكيف يتحول المكان إلى عنصر مهم وفاعل في التجربة الكتـابية سواء أ كانت روائية أم قصصية أم شعرية؛ حيث يغدو المكان أحد الشخصيات المتحركة في إنتاج الدلالة، وأحد العناصر المهيمنة أحياناً في تمثيل التجربة الشعورية، ومن هنا – بل ومن قبل ذلك – بدأ النقاد يولون المكان أهمية خاصة، وبتوسيع الدلالة أطلقوا عليه الفضاء ليعمَّ المكان كحيز جغرافي، وكذلك فضاء النص كحيِّزٍ كتابي، وما يوحي به زيادة على ذلك من ظلال أوسع يرسلها المتخيل الإبداعي على ما يفتحه الذهن ويشرع نوافذه على فضاءات الخيال.
   تدرك كل ذلك وأكثر وتستشعر العلاقة الحميمة بين الشاعر والمكان وأنت تقرأ قصائد الشاعر العربي السوري " راتب سكر " منذ أول نصوصه الشعرية ومروراً بدواوينه الخمسة المنشورة بين عامي 1984 – 2005م، حيث يظهر المكان بإيقاعه المنتظم في رسم الذكرى، وتشخيص الحالة الشعورية، مما يبرهن على أن الشاعر يتعلق باللحظة المكانية محاولا تصويرها فوتوغرافيا ونفسياً معاً حتى لا تتسرب منه إلى عوالم النسيان وما وراء الواقع، فيلتقط لها صورة نفسية حياتية مثبتاً فضاءها في لوحة إبداعية رقيقة يلتقي فيها الفضاء بحركة الإنسان داخلها بما يحمله من حيوات متدفقة نابضة، والشاعر " راتب سكر " لا يستطيع أن يجعل المكان خالياً من الصديق، فهو يرسم المكان بشاعريته مفعماً بأرواح وأنفاس الأصدقاء.
   في ديوانه " أبي ينحت الحجر " 1994م تطالعنا أولى قصائده " أمسيات بيروت " بهذا الإهداء: "إلى أصدقاء الطفولة في تكميلية جل الديب الرسمية المختلطة"، ومنذ البدايات ندرك وفاء الشاعر للأصدقاء فها هو يسجل ذلك في متن الروح منذ الطفولة، وبراءة الصداقات الأولى من جبال الأرز والصنوبر، وأمسيات بيروت الحالمة التي تهجّى فيها الشاعر أبجديات الحب، وأولى خطوات المعرفة والجمال، يرصد ذلك ويستمر معه الرصد – كصفة ملازمة له – ويكبر حتى يمر كنهر العاصي في وجدانه وتيار حياته الذي سيصل به بعد ذلك في قطار العمر إلى جبال اليمن الشاهقة في رحلة حياة عامرة بالأصدقاء، وغامرة بالوفاء لهم، وللمكان الذي ينحتُ في الشاعر لحظاته كنحت ذلك الأب الذي جعل من الحجر قيمةً فنيّةً مقدسة للمكان.
ومن ذكريات الطفولة التي تلتقطها ذاكرة الشاعر وعدسة كلماته تأتي هذه الصورة الرائعة:
"رسمتُ صنوبراً بين الجبال
مدينة وقرى
مدارس للتلاميذِ الصغارِ
شريطةً لجديلة
كانت تطيّرها
معلمةُ الرياضة في تمارين الصباح
رسمتُ حتى خلت أشكالي
بلاداً..
والحياة تعيد دورتها
وطال جنون أحلامي
قفزتُ مصدقاً لعبي وأوهامي
أحركها على الأوراق
مثل حمامة بيضاء
مدَّت بالهديل فضاءها
وتراقصت فيه..."   (ديوان "أبي ينحت الحجر"، ص 14، 15).
   ويمضي الشاعر ليسجل من خلال المكان آفاقاً مختلفة ورؤى ممتدة يطول بنا المقام لو ذهبنا نرصدها جميعا، - قد يغرينا ذلك لدراسة أوسع وقراءة أعمق –ولكنا هنا سنذكر بعض عناوين قصائده التي تضمنها ديوانه الثالث " في حضرة العاصي " 1996م ؛ حيث يتسع في حركته الراصدة والمحلقة في الفضاء المكاني / الشعري من الأقرب إلى الأبعد من المحلي / الوطني، إلى الخارجي / العربي عبر رابط يجري في دمه الشعري مجرى نهره العربي الرمز نهر العاصي، يظهر ذلك في عدد من قصائد الديوان مثل: " عاشق من الفريكة "، و " على ضفة نهر "، و" في حضرة العاصي "، " وعكاظ في برار موحشة "، و " دفاتر البحر"، و" صباح من دم لشرفات الخليل "، هذا المرور الواسع من الفريكة إلى عكاظ والخليل عبر النهر الذي يصب في بحر الوجدان الواسع احتواءً للمكان في رسم الشاعر، وحضور كلماته، والعاصي ذلك النهر العظيم الذي يقف الشاعر في حضرته وقوف تلميذ نابهٍ يروي عن أستاذه ألق المعرفة، وجلال الذكرى، وخلاصة التجارب ليس إلا أحد تجليات المكان بالنسبة لتجربة الشاعر الوجدانية، هذا المكان / النهر له مع الشاعر وقفات طويلة يُحَدِّثُ عنه ويروي – كأستاذ أجاز لطالبه رواية مؤلفاته على طريقة التلقي في الدرس العربي القديم -  يصف من الأصدقاء الذين مروا به وعاشوا له وعليه أصدق لحظاتهم، فيصفهم  بجلال الكلمة وروعة المعنى، فتبدو في كلماته تجاربهم النادرة والإنسانية، ويبدو هو كشاعر/ناثر أوفى الأصدقاء، يشارك النهر للمارين عليه حباً بحب ووفاء بوفاء، فنجده يُسطِّر كتاباً نثرياً يحمل عنوان: " أسماء على ضفاف العاصي: بشر، وكتب، وأمكنة " يجسد فيه بقلمٍ رشيق شاعري ذكريات وفاءٍ لإحدى وثلاثين شخصية ارتوت من معين هذا النهر وأروته من معانيها، وسابقت خطواته ليرصد بذلك ما يؤكد مشروع راتب سكر الإبداعي – شعراً ونثراً – في كونه من أكثر الناس وفاءً للأصدقاء، فهو يعيش بهم ولهم، ويكتب بدافعٍ منهم، أو ربما بوحي من معنى الصداقة الأسمى للإنسان والمكان:
"هذا الفضاء ملاعب الأسفار
يحملنا معا
يتسامران بغفلة عن رغبتي
ويعمران لها القصور
حجارتي ذهب
وصوتي من رخام
قلب على دار
بنيت سياجها من أدمعي
وعليك يا دار السلام..."    
   وقد يوحي المكان إلى الشاعر بدخائله ومكنوناته التي تعود به إلى صور التقطها في صغره، واحتفظ بها في اللاوعي حتى يأتي ما يحركها، ويبعثها إلى سطح الشعر، ففي ديوانه " ملاءة الحرير"  2000م الذي كتبه الشاعر بين عامي 1997 - 1999م أثناء الفترة التي عاشها الشاعر في اليمن أستاذاً للأدب العربي تنقَّل خلالها بين جامعتي إب وصنعاء، وفي جامعة إب وبالتحديد في كلية التربية بالنادرة المنطقة الأجمل في اللواء الأخضر والتي لا تكف سماؤها عن البكاء مطراً طوال أيام السنة وتكسو جبالها ووديانها الخضراء روعة الطبيعة وسحر الجمال الفطري مع طيبة الفلاح اليمني الأصيل، وقد تغنَّى بتلك الرياض عددٌ كبير من شعراء اليمن – بالفصحى والعامية رجالاً ونساءً – وكذلك الشعراء العرب الذين مروا بها أمثال الشاعر الكبير سليمان العيسى، وأدونيس وغيرهما، وهاهو شاعرنا " راتب سكر " يرفع عقيرته بالغناء الصادح في عدد من قصائد هذا الديوان حيث تحظى اليمن/ المكان بمعظم نبضاته، وتقف ثلاث قصائد منه في عتبات النص على عنوان واضح في يمنيته هي: "لغة مترفة من اليمن السعيد، ومجرد مدن.. لكننا نعرفها، – يذكر فيها مدينة عدن الجميلة - ومثول بين يدي ذي يزن".
   أما " ملاءة الحرير " هذا العنوان المغلف بشفافية الحرير ونعومته، فيربط بين واقع الشاعر في عيشه باليمن، وطفولته التي استدعتها المقارنة بين صورتين: صورة المرأة اليمنية التي تضع الحجاب الأسود على وجهها كعُرفٍ ثابت لغطاءٍ لا يمنعها من ممارسة حياتها الطبيعية في العمل، والدراسة، والمجتمع، وبين تلك الصورة التي كانت تضع فيها المرأة السورية في زمن طفولة الشاعر ملاءةً من الحرير الأسود الشفاف الذي يشي أكثر مما يمنع، وينمّ عن ملامح المرأة ذات الثراء ليدلّ على أن تحت هذه الملاءة جمالاً رائقا ونعمة مثيرة، هذه الصورة الشفافة، ذات الدلالة العميقة نجح الشاعر في استدعائها والربط من خلالها وعبر التقاء المكانين بين اليمن وسوريا في علاقة عميقة يصوغها الشاعر الذي يعيش اللحظة في وطن شقيق، بهويته وذكرياته الخاصة لم تغادره سوريا أو يغادرها لحظة واحدة، ويدل على ذلك رنّة الشجن العالية والحنين الواضح في معظم قصائد الديوان، فهاهو في ثلاثة مقاطع متتالية في قصيدة "مجرد مدن.. لكننا نعرفها " يتنقل بين حلب، وعدن، وبيروت ليرصد في الأولى حلب القصيدة التي كانت تسامرُ أضلعه، وفي بيروت الطفولة تفرح بالكلام كدمية الأطفال ترقصه وترسل في صنوبرها مواكب من أمانيها، وبينهما تقع عدن:
"هنا " عدن " التي وعدت يديّ
بلوزها وبتينها
ومضت
تفسَّر في صراخ البحر
أصداف المحيط
وما تخبئ من مواجد
في خفاياها
تركتُ وعودها
ورجعتُ لا لوزي
ولا تيني..."

   ومن " عدن " السابحة على بحر العرب الممتد يصعد الشاعر شمالاً نحو "صنعاء" ماراً بجبل "سُمَاره" الشامخ بخضرته وشممه، يصف ضبابه المتمادي في لوحة السماء:
"ما تمادى في "سماره"
من ضباب؟
مفرد في جبل يشربُ ضوئي
لججُ الظلمة عاتية
تنهب دربي
ما لقومي قد تناءوا
ما لصحبي
أسلموا أشرعتي تكوي حنيني
من غياب لغياب
كم أناديهم!
وصوتي نبتة ظامئة
لم يسقها "وادي بنا"
من سيله الجاري كلاما
عن أغانيه التي ترفو
وعود العمر
من باب لباب..." 

   إنه الألم الشفاف وحنين الغربة التي لم تروها تلك الوهاد، ولا ذلك السيل في "وادي بنا"، وإن قربته من أصدقاء جدد لكنها أبعدته عن أصدقاء وأهل آخرين، وهكذا دواليك جُـبِـلَ الشاعرُ على حبِّ الأصدقاء والحنين إليهم كما يحن إلى المكان فما يلبث هذا الحنين وذلك الشوق أن يتحول إلى قصيدة متشظية وإبداعٍ متجدد بعد أن يبتعد عن المكان، وعن أصدقاء أَلِـفَهم وانتقاهم في اليمن، فما يلبث حين يغادر ديارهم وربوعهم في اليمن إلى موطنه الأول سوريا حتى يحنّ إليهم ويبثهم في ديوانه الخامس أشواقه التي لا تخفى، ويظهر ذلك ابتداءً من العنوان " أقرب من الأصدقاء... أبعد من الخصوم " 2005م، وفي الديوان نجدُ عدداً من أصدقاء الشاعر لا بأطيافهم وأفكارهم وصداهم في الوجدان والذاكرة بل بأسمائهم الحقيقية (سليمان العيسى – سعد الدين كليب – أيمن أبو شعر – نزار بريك)، وأسماء من دفاتر صنعاء (أحمد الحضراني – عبد الحفيظ النهاري – محمد حسين هيثم) فهل نجد اليومَ – في زحمة المصالحِ - وفاءً كهذا يخصُّ كل صديق منهم بقصيدة تحمل اسمه كأوفى ما يكون الصديق، وأجمل ما يُصَاغ الشعر: نذكر من ذلك قصيدة "أحمد الحضراني" -وانظر معي كيف يقترن الصديق بالمكان حتى يبدوا شيئا واحداً -
"أحمد الحضراني
صنعاء  ساهرةٌ
ترتلُ ظلمةً
هجعت بطين كتابها
قرأت من التاريخ
أسماء الذين تحبهم
كتبت أغانيهم خطوط ضيائها
رفعت مواكبهم
بيارق من حنين عارم
بجبالها
ورمت على الدنيا
رياحين السلام..."

   سلامٌ على الوفاء المطلق والصداقة التي لا ثمن لها إلا جمال الشعر وسمو الخُلق، وتحية للشاعر راتب سكر ذلك الصوت الغَـرِد القادم من حلب على شاعريته الرائعة، وعلى شعريته الصادقة، فهو بحق في معظم أعماله أقرب إلى المكان بآفاقه، وأوفي إلى الصديق بأخلاقه. 

تعليقات

  1. دراسة رائعة د. راتب سكر يستحق هذا الاهتمام شاعر له بصمة خاصة جاد ووفي ونبيل في علاقاته مع أصدفائه واقعي له التقدير والاحترام

    ردحذف
    الردود
    1. شكرا لرأيك ومرورك أيها الفنان الأستاذ محمودشيخوني .. وله التحية شاعر كريم وصديق عزيز

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)