يوسف شاهين عميد السينما العربية


يوسف شاهين عميد السينما العربية
 (كلمة ألقيتُها بدار الأوبرا المصرية بمناسبة ذكرى رحيله في 15 أغسطس 2008م، تبعتها حفلة فنية أحياها الفنان اليمني/ أحمد فتحي)
د.إبراهيم أبو طالب
   نلتقي اليوم في هذا المقام على المحبة، تجمعنا روحٌ كبيرةٌ عاشت للفن والإبداع دهرًا، وفي اثنين وثمانين ربيعًا رسمت للعالم لوحةً لا تنسى، وقدمت الإنسان المصري والعربي كمشاركٍ فاعلٍ في الثقافة العالمية، له بصمته المعبّرة وموقفه المختلف، ونكهته الخاصة، ولم يكنْ مستغرَبًا أن يبكي عليه العالمُ ويأسفُ لرحيله ويصفه أحدُ زعماء العالم، وهو الرئيس الفرنسي "ساركوزي" بقوله "لقد فقد الفنُ السابعُ لتوِّهِ مُدافعًا كبيرًا عن حرية التعبير، وعن تزاوج الثقافات، لقد فقد الفنُ أحد أشهر المساهمين فيه، إنه يوسف شاهين المتعلق جدًا بمصرَ لكنَّه المنفتح على العالم".
   إن يوسفَ شاهين ظاهرةٌ فنيةٌ وطاقة عبقرية متعددة المواهب، ظهر ذلك في منجمه الفني الثري من خلال اثنين وأربعين (42) فيلمًا بين روائي طويل، ووثائقي قصير، هي حصادُ رسالته الفنية في ثمانيةٍ وخمسين عامًا من عمره السينمائي، وقد ظهرتْ تلك العبقرية الواعدة في وقت مبكر حين أخرج فيلمَه الأول "بابا أمين 1950م" وهو لمّا يتجاوز ربيعه الرابع والعشرين، ليأتي بكرامة شبابية متوقدةٍ في سنٍّ مبكرة، لم يقل يومًا "ما ترك الأولُ للآخر شيئًا" شأنَ من لا يريدُ أن يفلحَ كما قال ابن النظام قديمًا، ولكنه تَمَثَّل بقول أبي العلاء المعري:
وإنّي وإن كنتُ الأخيرَ زمانُهُ... لآتٍ بما لم تستطعْهُ الأوائلُ
   ثم يمضي في طريقه ليكون في طليعة مخرجي الواقعية الاجتماعية في السينما المصرية إحدى أكبر صناعة سينما في العالم وقتها، ويحقق شاهين شهرة عالمية بأعماله الرائعة والمثيرة للجدل لِما تقدِّمُه من رؤىً فاعلةٍ تعتمد على تحرير الفكر وتطويره معًا لكي لا يكون المتابعُ لهذا الفن مُشَاهدًا سلبيًا – وتلك كانت فلسفةَ شاهين في جُلِّ أفلامه – حيث كان يستفزُّ ذهنَ المشاهد، ويدفعُه للتفكير والتأمل.
   قدَّمَ شاهين رباعيته السينمائية الشهيرة (أفلام الإسكندرية الثلاثة - وحدوتة مصرية) لتتناول سيرتَه الذاتية كأهم إضافةٍ سينمائية فنية للانطلاق من الذاتي إلى الموضوعي، ومن الشخصي إلى الفني، ومن الخاص إلى العام، وبوصفها سلسلة أفلام رسم فيها –من دون سردٍ تاريخي خَطّي– صُورًا من حكاية حياته وحكاية السينما في تلك الحياة، فطرح فلسفةَ المكانِ ورائحتَه، ونبضَ الإنسانِ ورؤيتَه بطموحاتِه وانكساراتِه بتأملاتِه وخضوعِه، ليبقى الفنُّ هو ما يسمو به ويضعُه في مكانه اللائق عربيًا وعالميًا.
   لم يسعَ يوسفُ شاهين إلى جائزةٍ ما، لكنَّها سعتْ إليه، ولاحقتْهُ لتتشرفَ به منذ أوّلِ مشاركة له في مهرجان كان عام 1951م بفيلمه "ابن النيل" أثار الانتباه والاهتمام فلفتَ أنظارَ المُبدعين وصُنّاع السينما العالمية إلى هذا النبض المصري العربي القادم من الإسكندرية بتاريخها وحضارتها العريقة لتنضج مشاركاته وأعماله باستمرار، فيحصدَ بعد ذلك جائزة اليوبيل الذهبي لمهرجان "كان" الخمسين عن مجموعة أفلامه، وذلك عام 1997م، ومن قبلها حصد عددًا من الجوائز الذهبية في مهرجان قرطاج، وجائزة الدب الفضي في برلين وغيرها.
أتته الجوائزُ منقادةً... إليه تجرجرُ أذيالَها
فلم تَكُ تصلحُ إلا له... ولم يَكُ يصلحُ إلا لها

   حين تلتقي الصورةُ بالنغمة والفكرةُ بالكلمة في انسجام خلاقٍ، فإنها لا يجمعها سوى ريشةِ فنانٍ عظيم في إهابٍ من العبقرية النادرة، وقد كان للموسيقى والغناء توأمةٌ واضحةٌ مع الحركة والتمثيل في مشوار شاهين السينمائي منذ البداية حيثُ وظّفهما بقدرةٍ فائقةٍ وتناغمٍ جميلٍ كعنصرين أساسيين يميزان أفلامه، منذ فيلم "بابا أمين 1950م" حتى فيلم " هيَّ فوضى! 2007م".
فلماذا هذا التوظيف ؟
    إن شاهينَ الفنانَ قد تآزرتْ في ذهنه وسلوكه الفنون جميعًا فظهرتْ كلوحةٍ مكتملة فيها سرُّ الكلمة، وبهاءُ اللون، وفضاءُ التشكيل، وسحرُ النغمة لتصنع سيمفونية الروح وغذاء العقل ولذة الجسد، وذلك شأن الكبار من عباقرة الفن وأساتذته، وهو في عمله كان يشارك في اختيار الأغاني والموسيقى بحسِّهِ الفني لتخدم جميعًا فكرتَه ورؤاه، بل وقد يشاركُ في التلحين أيضًا.
   تعاونَ شاهين – في هذا الأمر– مع فريد الأطرش وشادية وقدمهما في صورة مختلفة في فيلم " أنت حبيبي 1957م"، وقدّم مع فيروز والأخوان رحباني فيلم " بياع الخواتم 1965م"، واختار ماجدة الرومي لبطولة فيلم "عودة الابن الضال 1976م" والفنانة لطيفة في "سكوت حنصور 2001م "، ويمثل "محمد منير" حالةً خاصة لأنّه أكثرُ المطربين مشاركةً بصوته وأدائه في أفلام يوسف شاهين.
   وفي هذه الليلة وبهذه المناسبة تأبى الكلمة واللحن إلا أن يتعانقا ويعزفا للروح العظيمة آياتِ حبٍّ وتراتيلِ وفاء فجاء:
من أرض بلقيسَ هذا اللحنُ والوترُ... من جوها هذه الأنسامُ والسَّحَرُ
من صدرها هذه الآهاتُ, من فمها... هذي اللحونُ ومن تاريخها الذكرُ
من (السعيدةِ) هذي الأغنيات و من...  ظلالها هذه الأطيافُ والصورُ
   كما يقول شاعرُنا الكبير الأستاذ عبد الله البردوني الذي يحضر معنا بروحه في هذه الليلة مشاركًا في هذه التحية اليمانية للراحل الفنان العظيم يوسف شاهين.

   من جبال اليمن الشامخة، ووهادها الدافئة من روح إنسانها العربي الأصيل المحب للفن والعاشق للحرية والجمال جاءَ يحمل قيثارةَ حبٍّ، ونبضَ قلبٍ، ورسالة إعزازٍ، ونقاء مشاركةٍ في محراب عاشق الفن ومايسترو الإبداع أتاكم الفنانُ اليمني المحلقُ بفضاء النغمة وسحر الوتر عميد العود العربي الفنان أحمد فتحي جاء لكي يعزف بأنامل الحب لوحةَ وفاءٍ وإجلال لعميد السينما العربية الراحل الكبير يوسف شاهين، الغائبِ الحاضر، والذي ما رحل عنّا قطُّ لأنَّ من يترك هذا النبع الصافي من الإبداع، وهذا النهرَ الدائمَ الجريان من الفن في عروق محبيه ومتذوقيه وفي شرايين عقولهم ما كانَ له أن يغيب، وإنما ذهب ليستريح لأنه قد أرهق ذلك الجسد:
وإذا كانت النفوسُ كبارًا... تعبتْ في مرادِها الأجسادُ

   وفي ختام كلمتي أرجو لكم ليلةً رائعةً مع هذه المرثية الموسيقية والمقطوعات الإبداعية التي جعل الفنان عنوانها (إلى روح يوسف شاهين بأنامل أحمد فتحي) وفيها يقدّم فتحي رسالة مواساة وحب من الشعب اليمني خصوصًا والشعب العربي في عمومه إلى الشعب المصري بمثقفيه وأدبائه ومبدعيه وإلى أسرة شاهين مع إكليل من الورود، وللراحل في مثواه خالص الدعاء.







تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)