حديث كل يوم للإرياني


حديثٌ عن (حديث كل يوم) لعبد الله عباس الإرياني
د/ إبراهيم أبو طالب
    تأتي مجموعة (حديث كل يوم) القصصية للقاص عبد الله عباس الإرياني الصادرة عن مركز عبادي 2011م لتؤكد حضورَه في المشهد القصصي اليمني بعد مجموعتين قصصيتين، وثلاث روايات، وثلاث مسرحيات جميعها صدرت خلال ست سنوات ما بين عامي: 2006م؛ وحتى 2011م. وهي تشكّلُ كثرة ملحوظة خلال فترة قصيرة نسبياً.
ومجموعة (حديث كلّ يوم) التي نحن بصدد الحديث عنها كما يحدثنا بها (عبد الله بن عباس) الإرياني، هي من عنوانها - الذي هو عتبة الولوج إليها- تقودنا إلى عالم من الأحاديث الحكائية التي لا تخرج في مجموعها الذي يبلغ (36 قصة قصيرة) عن الحكاية في جوهرها المعروف في القصة القصيرة التقليدية؛ حيث يسيطر عنصر الحكي على أغلب تلك القصص، يلتقط القاص موضوعات قصصه من محيط المجتمع اليمني بقضاياه اليومية ومسيرة شخصياته البسيطة التي تعاني في معظم القصص من رتابة الحياة وتفاصيلها الصغيرة والدقيقة في ذات الوقت، فنجد حياة الموظف المتعب بظروفه المعيشية وهروبه إلى المقيل (جلسة القات) كمهربٍ يومي يقضي فيه ثلث يومه، - وفي الحصيلة ثلث عمره- مع نفسه، ومع أصدقائه في الْتهام أوراق القات والْتهام أحاديث السياسة والوظيفة والأصدقاء والوقت.
والمجموعة -إذا لم نجانب الصواب- تبدو الثيمة الرئيسة فيها هي (القات) ومتعلقاته والحديث عن قضايا تدور في المقيل، وبين المقيّلين كما في قصص: (الوبلي، ومقيل حانب، والشانني، والملخاخ، والمطسة، وسيف؛ حزام؛ طربوش، والسقوط... وغيرها) موضوع القات فيها هو الموضوع الأهم في حياة اليمنيين، ومن هنا يُحسب لهذه المجموعة التركيز على هذه الخصوصية، بما يؤكد تميزها في رسم صورة واقعية لا (رتوش) فيها ولا تحسينات لواقع يومي يصفه القاص كما هو عليه، فالقات هذه المحنة الاجتماعية التي يعيشها اليمن منذ قرون طويلة لا يستطيع التخلص منها بحكم العادة، بل من الملاحظ أن اليمني يغرق فيها كلما مرّ الزمن وتجددت الأجيال، ومن هنا فإنّ الحديث عنها في مجموعة (حديث كل يوم) هي قصة اليمني مع القات كلّ يوم، والكاتب – كما يبدو- لا يتخذ موقفاً ما من القات سواء كان مع القات أو ضده، بمعنى أنه مضى يرسم واقعاً أدبياً من خلال شخصيات كثيرة يظهر الراوي مندمجا فيها دون استعلائية أو تكلف كشخصيةٍ ورقية وحقيقية -أيضاً- يجدها في المقيل الممتد في حياة اليمني، ولذلك نجده يلتقط شخصياته من داخل ذلك المقيل، بل ويجعل القات – في إحدى قصصه- محوراً مهما في النظر إلى حياة الأجيال، فتطور الصناعات – مثلا- يسخّرها اليمني من أجل القات كما في قصة (المطسّة) على سبيل المثال، نجد العم راحج الذي يتجاوز عمره التسعين عاما قد عاش دهراً، ورأى من المخترعات الكثير، ولكنّه كيّفها للكيف أو للقات، - وهي لفتة ذكية من الكاتب- ، فبعد أن فقد العم راجح أسنانه بسبب عين حزام ونفسه النهمة التي لا تقنع في أوراق من قات العم راجح منعها عنه ذات مقيلٍ، فكان نتيجة ذلك المنع أن خسر كل أسنانه في اليوم التالي، مما دفعه إلى استخدام المدق ليسحق فيه أوراق القات وأغصانه، ثم يأتي المُختَرع الثاني بعد حينٍ، وهو الخلاط اليدوي، ثم بعد حين من الزمن يأتي الخلاط الكهربائي، فيستخدمها العم راجح للقات، ولكن حنينه إلى طعم قات المدق يظل لديه ألذ مما بعده (ص 75)، وفي ذلك حنين إلى الماضي وذكريات الأمس، ومن هنا نلاحظ كيف أن هذه المجموعة القصصية متأصلة في خصوصيتها المحلية، وهذا الأمر واحدٌ من علامات تميزها في جانب الموضوع (الثيمة)، أما من ناحية البناء الفني للقصص، فثمةَ ملاحظات أنتجتها القراءة، لعلّ أبرزها يتلخص فيما يأتي من نقاط:
1-  يعتمد القاص في بناء معظم قصصه على التداعي اللفظي، ومن علاماته سيطرة مفردات بعينها تتكرر بوضوح في بدايات الجمل، وأحيانا يوغل ذلك التداعي في اشتقاقات تلك اللفظة أو المفردة، ومن أمثلتها الكثيرة في المجموعة: مفردة: (حانب) فهي تتكرر داخل إحدى القصص- بشكل ملفت-، وتكون بداية للجمل السردية، وأحيانا تظهر باشتقاقاتها: حنبة، محناب، وغيرها مثل: برج الحنبة، ومقيل حانب، ومثلها مفردة أخرى: وهي: عرطة، وعارط ،ومعراط ومعروط ...الخ، وقد تمتد سيطرة بعض المفردات إلى عدد من القصص، وكأنها أُنجزت في وقت متقارب، فتبدو القصص ذات جوٍّ واحد، وفكرة مُلحة تسيطر بتداعيها على ذهن الكاتب فتظهر في بناء القصة، وكأنه يعتمد على ترك الكتابة ذاتها - أي فعل الكتابة كفعل إبداعي- تقوده إلى إنجاز القصة دون أن يكون قد رسم شخصياتها، وحدد أحداثها من قبل، ربما تكون الفكرة موجودة كمنطلق للكتابة لكن البناء يعتمدُ على التداعي اللفظي، ومن هنا تتكون القصة أثناء الكتابة لا قبلها،  ولسنا هنا بصدد تقييم ذلك أو إصدار حكم قيمة فيه، بقدر ما يعنينا توصيف المنجز الكتابي.
2-  من خلال الملاحظة السابقة يظهر أن ما تقوم عليه القصة القصيرة – كنوعٍ أدبي- من رفضها للحشو والزيادات التي لا تُستحب فيها باعتبارها بنية حساسة موجزة ترفض كلّ ما يزيد عن الحاجة وتعتمد في بنائها على أن كل كلمة يجبُ أن تكون في مكانها، وأن تؤدي غرضاً فنياً في بنية القصة، فإن اعتماد الكاتب على ما أشرنا إليه من التداعي اللفظي قد أوقع عدداً من قصصه في ذلك الحشو الذي ربما لم يكن مفيداً في بناء القصة.
3-  يظهر التضمين والاقتباس من الشعر: سواء أكان فصيحاً: للمتنبي والسياب وغيرهما، أم شعبياً من شعر الأغنية الشعبية في عدد كبير من قصص المجموعة، وبخاصة ما تستدعيه الفكرة في القصة أو ما تقود إليه المفردة التي تُلحّ بوجودها على بناء القصة، فمثلا في قصة (المحناب) ص217، بعد أن يُعرّف المحناب بهامش ينقل فيه المعنى عن (المعجم اليمني) لمطهر الإرياني، ثم يأتي بالنص الشعري:
يا حبيب يا حبيب حنبت لك بالمحانيب
بين سُكر وطيب وكل شي بالمكاتيب
ويتكرر الأمر بالنسبة للتعريفات وللاقتباسات، في مصطلح (المُشَاقَرَة) في القصة التي تحمل نفس العنوان (ص 174)، يعرّفها من المعجم اليمني، ثم تكثرُ الاقتباسات، والمجموعة عامرة بذلك، ولننظر مثلا: القصص الآتية: المضروب والعسل، الريحان والريحانة، الشاشة، وغيرها، ونلاحظ أن بعض الاقتباس – الشعري الشعبي الغنائي تحديداً- يأتي ضمن السرد ليعبر عن ثقافة القاص وانشغالاته كهامش سردي، وبعضها يكون مركزا سردياً لبناء القصة، كما في قصة (الحنش)، ص 189- 194 التي تقوم على بيت من الشعر الشعبي، تدور حوله القصة، بل ويكون نهايةً لها مع تغيير مفردة تتناسب مع القصة وبما لا يبدو أنه يمثل نهاية قصصية:
ثعبان سلس خليتهم بغير حس
لا نوم ولا ذاهن ولا منعس
والأصل في النص الشعبي هو بدلا عن ثعبان، كلمة (أخضر سلس ...) الدال على الأنثى في الثقافة الشعبية، وربما يظن القاص بأن هذا التغيير سينقل المعنى إلى ما يفيد قصته، في حين أن ذلك قد لا يعدو ضربا من التداعي اللفظي الذي أشرنا إلى سيطرته على ذهن الكاتب أثناء عملية الكتابة.
4-  تعتمد المجموعة في بنائها على فعل السرد التقليدي (كان)، ولنقرأ على سبيل المثال هذا المقطع: "كنت انتظرك خلف النافذة ...لم تكن، كانت عيون حبيبي، كان لها وقع النسمة اللطيفة، في صيف [قائض] (كذا)، وعندما [ألحيت] (كذا) للقائك، كان لي أن أختار... كنت رزقا سهلا لا أستحقه، وإذا خطبتني سوف تقهرني، كنت رزقا سهلا لا أستحقك..." ص 133، ونلاحظ حضور الفعل كان بكثرة، وهو الفعل التقليدي بامتياز في السرد، كما أن ضمير السرد المسيطر كعنصر واضح مهيمن هو ضمير الغائب الضمير الثالث (هو).  وأما الحوار فمن الواضح أنه يأتي مكملاً للسرد ومؤديا لدور المساند فيه، وهو بطبيعة الحال يأتي بلغة عامية، تُقرّب جو القصة من طبيعة شخصياتها العادية البسيطة معبرا عن حياتها دون تكلف أو ادعاء، ثم يبنى السرد – إلى حدٍ ما- بناءً قصصيا مألوفا إلا من بعض الاستطرادات التي تخرج به عن القصصية، -كما ذكرنا سابقا- من خلال التعريفات والمصطلحات والعودة إلى قواميس اللغة والحديث عن كتاب أو وجهة نظر قد تستغرق حيزاً في الكتابة بما يثقل القصة بالحشو، وربما بما يقود إلى المقالية على حساب السردية.
5-  تبقى الإشارة – في هذه القراءة- إلى بعض الملاحظات اللغوية والإملائية والنحوية وهي كثيرة ولا يسعنا عرضها هنا،  ولا نظن بأن القاص قد وقع فيها عن عمدٍ، كونه من المشتغلين بالأدب الذي مادته اللغة، ومن لا يجيد التعامل مع أدوات صنعته يقع في الأخطاء، والقاص الإرياني من أسرة أدب ولغة متمكنة، ومن الرعيل المثقف الدارس في مداس العلم الأصيلة، وليس ممن يدّعون بسبب تعجلهم وجهلهم بأنه لا يعنيهم النحو ولا الإملاء، وهم أكبر من الخليل وسيبويه وابن جني، بل للأسف قد تسمع من أحدهم وهو يشمخُ بأنفه الفارغ قوله ( أنا لا يعنيني هذا الأمر؟)، كون الواحد قد نشر قصة هنا أو قصيدة هناك وأجازتها بعض الصحف التي تزخر بالأخطاء، وعلى كل حال ثمة أخطاء كثيرة في المجموعة كان حريّ بالقاص أن يراجعها قبل النشر أو يحيلها إلى لغوي، لأن المشتغلين على الإبداع والكتابة هم أكثر الناس حرصاً على سلامة اللغة وجمالها وجمالياتها، ولعلّ المتنبي ربما كان يقصد هذه الفئة من المثقفين بلومه ( القادرين على التمامِ).
وفي الختام فإن مجموعة (حديث كل يوم) لعبد الله عباس الإرياني مجموعة متميزة تستحق القراءة لما تحتوي عليه من مواقف واقعية وحيواتٍ متنوعة ورؤى نابضة بروح البيئة المحلية بقضاياها الصغيرة والكبيرة، وهموم عيشها، لذا فإنها قطعة صادقة من صور الواقع اليمني، بروح الحياة المعاصرة بتفاصيلها وأفكارها وواقعها، فهل يا ترى بهذه المجموعة وغيرها وبما أنتجه وينتجه المشهد السردي اليمني ستغدو القصة ديوان اليمن؟! 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)