شاعر الغرباء هارون هاشم رشيد




شاعر الغرباء وحنين العودة
هارون هاشم رشيد
 (تحية لشهداء الزحف في ذكرى يوم الأرض)
د. إبراهيم أبو طالب
   كثيرا ما تتلازم الأسماء والدوال بمسمياتها ومدلولاتها في علاقة وشائجية وتوليدية فحين تُذكر اليمن – مثلا -  تتدفق في شراييننا حضارتها وسدودها،  و"الإيمان يمان والحكمة يمانية"، وحين تذكر فلسطين والثورة والمقاومة يُذكر معها الشاعر هارون هاشم رشيد شاعر الثورة واللاجئين وشاعر الغرباء كما يصفه عدد غير قليل من النقاد، وهو حامل بيرق النضال والجمال والحرية، عاش ألم المشردين وذاق مرارة الاغتراب ووحشته، وسكنته هموم وطنه، وسافر كالسندباد في كل مكان، ولكنه كان في كل فضاء يحمل في وجدانه الجريح وطنه المجروح، ويدق بقصائده الأجراس حتى ينتبه الغافلون والنائمون عن قضية الأمة:
فيصحو على شعري السادرون... ويستيقظ النَّفَـرُ النوَّمُ
فشعره في مجمله شهادة عصر وحياة قضية، يستلهم مادته من تحولات فلسطين وآهاتها ومساراتها، همه الوطن، ولغته الوطن، وغايته الوطن، فلسطين لا غير محبوبته ومعشوقته عبر رحلة الكلمة ومسيرة الشعر، ليس لديه من الوقت ما يضيعه في إشكالية الحداثة واللغة الغامضة، فقضيته الواضحة لا تحتاج إلى الإبهام، وصراع القديم والجديد في الشعر لا يهمه، فالشعر لديه نبض واضح مؤثر، ورسالة جلية، غنّى للوطن لترابه وحقوله وسمائه ومائه وإنسانه، نادى أمته – وما زال - أن تنهض، وتهبّ لنجدة محبوبته فلسطـين، وهي في انتظارها (كبينلوب في أوديسة هوميروس تنتظر المخلِّص)؛
هي لا تزال حبيبتي العذراء.. تحلم.. تنتظر
 لا قيمة لديه للإنسان بلا وطن حر:
ما قيمة العيش والأوطان ضائعةٌ... يعدو على قدسها الباغي ويغتصبُ
وهو يرقبها دون نفاد صبر:
تظل العين شاخصة إليك وليس تنتقلُ
فتلمحُ كيف من ليل الخرائب يشرق الأملُ
لم يفقد الأمل للحظة واحدة فهو زاده، وهو المقاتل بالقصيدة، وحين نسأله لماذا الشعر ؟! يرد:
لأن الشعر يدفعنا إلى أوطاننا صفَّا
ويبقينا على العهد الذي لا يعرفُ الخوفا
يصرخ في العرب صرخته التي تُسْمعُ من به صَـممُ:
صمدنا في انتظاركمُ وما زلنا وننتظرُ
هنا امرأة تشق الثوبَ صارخةً وتنفجرُ
أما من نخوةٍ فيكم تضجُّ بكم وتبتدر؟!
هنا طفلٌ نما في الشوك لا فَرْحٌ ولا سَمَرُ
ولا علم، ولا زاد، ولا ماءٌ، ولا ثمرُ
صورةٌ قاتمةٌ ونداءٌ مُوْجَعٌ، ومُوْجِعٌ في نفس الوقت لكل نفس عربية مسلمة أبية ما تزال تتوق للحرية ولمعنى النخوة، فمن لهذه الأخت الفلسطينية العربية المسلمة التي تشق الثوب صارخة منفجرة، هل نكتفي بالقول لكِ الله يا أختاه ولطفلك؟؟!!.
وهاهو ذا الشاعر يعرِّف بنفسه  في كل لقاء قائلا:    
أنا ماذا أكون بلا اسمي فلسطيني
بلا وطنٍ أعيش له وأحميه ويحميني

شعاره في كل لقاء وعبر كل منبر مقولته الدائمة "نعم أنا فلسطيني وشعري لفلسطين ولكل جرح عربي" استقرت في ذاكرة الشاعر صورة اللاجئين ولم تبرح مخيلته في صحو أو منام، فجسدها في أول دواوينه الشعرية (مع الغرباء) 1954م  وصف حالهم، في مشاهد بالغة الدلالة والمأساة، وهم يُنقَلون عبر البحر، وكيف تركت صور الأطفال الحيارى والأمهات المفجوعات والآباء الذين لا يملكون من أمرهم إلا الحزن والعجز، كيف ترك كل ذلك بصماته في مخيلة الشاعر ورؤيته، فانطلقت ثورة الكلمة في شعره واصفة كل ذلك البؤس والفجيعة والحزن، ومن أجمل ما كتب الشاعر قصيدته التي أسمى بها ديوانه (مع الغرباء) وهي بحقٍّ القصيدة المأساة كما يصفها بعض النقاد واستحق بها لقب شاعر الغرباء، هذه القصيدة ذات مستوى فني راق، يذكر الشاعر في كتابه (إبحار بلا شطآن) قصة إبداعه لهذه التراجيديا والظروف التي أحاطت بميلاد تلك الرائعة الشعرية فيقول: " كان (البريج) من أكثر المعسكرات التي ارتبطتُ بها، واستلهمتها، وقد توثقت عُرى المحبة والصداقة بيني وبين عديد من الأسر التي رافقتها.. وتعرفت إليها يوم انتقالها إليه... وفي يوم من عام 1950م عدتُ من المعسكر بعد زيارة لإحدى أُسرهِ وفي أذني كلمات لصبية أفضت بها إلى والدها تتساءل: لماذا نحن أغرابُ ؟ كانت السماء ملبدة بالغيوم الداكنة المحملة بالمطر، وما أن وصلتُ إلى غرفتي، وتخففتُ من ملابسي وآويت إلى فراشي باحثًا عن الدفء حتى بدأت أكتب قصيدة "مع الغرباء":
" أتت ليلى لوالدها
وفي أحداقها ألمُ
وفي أحشائها نارٌ
من الأشواق تضطرمُ... "
إلى آخر تلك الرائعة التي غناها كل العرب وشدو بها على صوت الفنانة فيروز الصوت الملائكي الرائع، ويظهر في معظم قصائد هارون هاشم رشيد علاقة الشعر بالمـكان التي هي علاقة وجود وانتماء عند بعض الشعراء - وهو أحدهم-، أو علاقة اغتراب وانفصال حتى وإن كان مقيمًا فيه عند البعض الآخر نلمس تلك الحميمية والتماهي مع المكان وبه في شعر هارون هاشم رشيد من خلال التكريس للمكان في شعره فما من بقعة على الأرض الفلسطينية إلا ونجد لها في شعره ظلا، وليس أدل على ذلك من أنه قد أفرد في دواوينه- التي بلغت حتى عام 2005 واحدا وعشرين ديوانا -  لكل مدينة منها ديوان، فللقدس ديوان، ومثله لغزة، وآخر ليافا وهكذا..، هذا فضلا عن القصائد التي تحتويها تلك الدواوين والتي تحمل خصوصية المكان وآلامه وأحلامه.
وقد عاش الشاعر عبر ثمانين عاما من الإبداع المتجدد يضع ملامح صورته على بطاقة الهوية التي سيراها كل العرب وكل عشاق الكلمة، كل الباحثين عن صوته الفلسطيني وعن وطنه الذي يعرفه، وهو سفيره للعالم:
" تعرفني مقاعد الدرس بها
والدورُ والحاراتُ
كما فراشة
كنت أهيم في سمائها
أنقل الخطوات
أحمل حبي الكبير
في جوانحي
وأنشد الأبيات
تعرفني الشمس بها
ويعرف القمر... "

ومع كلمات الشاعر القوية كان هنالك اللحن حاضرا وعبر مائة وخمسين مقطوعة شعرية تغنى بها كبار المطربين والملحنين العرب منهم: فيروز  وفايدة كامل، ومحمد فوزي، وكارم محمود، وآخرون وما تزال أغنية (سنرجع يوما إلى حينا) حاضرة في الوجدان العربي لأنها صيغت من الضوء والحزن والأمل:
سنرجعُ، خبّرني العندليب... غداة التقينا على منحنى
بأن البلابل لمَّا تزل... هناك تعيش بأشعارنا
وما زال بين تلال الحنين... وناس الحنين مكان لنا
فيا قلبُ كم شردتنا رياح... تعال سنرجعُ هيا بنا
وكان النثر رفيق الشعر في مسيرة نضال وطنية للشاعر هارون هاشم رشيد حيث ألَّف العديدَ من المسرحيات، والمسلسلات الإذاعية أبرزها (مثلث الرعب)، والحب في سخنين)، و(مدينة وشاعر)، و(المساجد في الإسلام)، و(يمهل ولا يهمل) وكلها كانت تبث من إذاعة صوت العرب من القاهرة، وتناولتها بعد ذلك عدد من الإذاعات العربية في السبعينيات من القرن العشرين، وأما الرواية فقد قادته إليها القصيدة أيضا فقد كتب قصيدة مرثاة للشابة "راشيل كوري" الفتاة الأمريكية التي قتلتها الجرافة الصهيونية، وهي ترفض أن يُهدم بيتٌ فلسطيني، فوقفت شامخة لتقول لا للظلم، وتبذل روحها فداء لمبدأ العدل وحقوق الإنسان، وكيف أن هذه الفتاة الآنسة (24 عاما) قد جسّدتْ الإنسانية بكل معانيها الكريمة المناهضة للآلة الإسرائيلية الظالمة، "راشيل كوري" تتبّعَ الشاعر قصتها وحياتها، فحولها من قصيدة كتبها على إثر حادث الموت إلى رواية كاملة صدرت عن دار الشروق، وهي في طريقها للسينما والتلفزيون لتروي بالوثائق حياة تلك الشهيدة الأمريكية من أجل فلسطين.
وكثيرا ما تحدث الشاعرُ عن غضب القصيدة، ومتى يغضب بالكلمة ولها؟، وهو العربي والعروبي الذي لم يفقد الأمل في أمته العربية والإسلامية وإن غضب منها مرة أو مرات، فإنما ذلك غضب الذي يستنهض عروق الكرامة التي كادت تجف ولكنها – في تقديره - لم تنضب، وسيظل يغني، ويعزف على آهاتها حتى تستفيق ورسالة الكلمة الشعرية، وموقفها لا يقل نفاذا عن الرصاصة في تحرير الأوطان، والانعتاق من الظلم والقهر، وذلك في طريق العودة التي لطالما تغنى بها ولها الشاعر، وغدًا سيغنيها معه كلُّ بطلٍ مؤمنٍ بأن الحق لا يضيع، وكأننا جميعا نسمع وقع النصر وخطاه حين نضع الراية كما قال الشاعر:
يا راية الشوق حُطِّي هاهنا انغرسي... فقد وصلنا هنا أمٌّ لنا وأب
   وإنَّا لواصلون إن شاء الله، ما دام في الأمة من أمثال هؤلاء الشباب الذين واجهوا الصلف والنار الصهيوني المقيت بصدورهم العارية إلا من إيمانهم بقضيتهم وعدالة مطلبهم، وروح الحق الذي لا يضيع مهما اعتقد مغتصبه أنه قد استحوذ عليه، فإن الحق هو الأبقى، وصاحبه هو الأقوى، "وسيعلمُ الذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون". 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)